خالد بركات:27 عاماً على تأسيس كيّان أوسلو
الفلسطينية
2020-09-12

ومن المُفيد هنا التذكير كيف جَرى " خَرّط كيّان أوسلو" بعد عشر سنوات على تأسيسه عبر إستجلاب مُثلث: عبّاس – دحلان – محمد رشيد - ومن على شاكلتهم بديلاً ل ياسر عرفات ، وحضور الجنرال الأمريكي كييث دايتون ودوره في صناعة "الفلسطيني الجديد" بعد "إعادة تأهيل قوات الأمن الفلسطينية"، كما من المهم التذكير وبنفس القدر كيف تأسست مراكز قوى مافيوية تتصارع على كعكة السلطة. وكيف يجري إزاحة بعض هؤلاء واستقدام آخرين جُدد، كأن قَدَر الشعب الفلسطيني وقَدَر شعوبنا العربية كلها أن تختار بين السيئ والأسوأ!
ولا نُبالغ إذا قُلنا أن الآثار الكارثيّة التي وَقعت على قضيّة فلسطين وشعبها جرّاء ما يُسمى "مسيرة السلام" كانت أشدُّ وطأة وأكثر إيلاماً من "وعد بلفور" المشؤوم (2 نوفمبر 1917) وأشد تدميرًا مما خلّفته كل الحروب الصهيونيّة المُتلاحقة التي شَنتّها "إسرائيل" ومعها القوى الإمبرياليّة والرّجعية المُعادية. فالإنجاز التّاريخي الأول الذي حققه العدوّ الصهيوني هو انتزاعه اعترافًا فلسطينيًا رَسميًا بـ "دولة إسرائيل" على 78% من أرض فلسطين المُحتلّة وتأسيس كياّن فلسطيني في "مناطق يهودا والسامرة".
ولا حاجة لنا اليوم إلى تظهير حجم الخطر الذي مثّله هذا النهج السيّاسي الفلسطيني والعربي الرّسمي على حقوق ومستقبل الفلسطينيين، بخاصة حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، كما لا نحتاج إلى تقديم المزيد من البراهين والأدلة على كيف ضرب اتفاق أوسلو وحدة الشعب الفلسطيني السياسية والقانونية والتنظيمية، وكيف أحدث حالة غير مسبوقة من الشرذمة والتفكك والانحلال التي يسمها البعض "الانقسام الفلسطيني" وهي في الحقيقة مَسألة أعمق وأخطر.
إنّ خلاصة التجربة العمليّة طوال 27 عاماً ، وإفرازتها على مدار عقود مَضت، والحقائق الباردة التي رَشحت على الأرض، تقول لنا كل شيء، دع الحقائق تتحدث عن نفسها، كما إن حالة الحصار والظروف الحيّاتية الصَعبة؛ الاقتصادية والاجتماعية والسيّاسية التي يعيشها الشعب الفلسطيني وتكتوي بنارها يوميًا الطبقات الشعبية الفقيرة، هذه الحقيقة بات صوتها أعلى من أيّ صوت، وهذا الجوع في المخيمات وأحزمة البؤس أقوى من أيّ عبارات أو مواقف بلاغيّة يُمكن أن تُكتب أو تُقال.. وطوال 27 عاماً مَضت يواصل الكيّان الصهيوني الاستعماري في فلسطين المحتلة جرائمه اليوميّة المعروفة، وقد تضاعفت وتيرتها أكثر بعد تأسيس كيان أوسلو في العام 1994 مِن اقتلاع منهجيّ للسكان، وسياسة الترحيل والإبعاد والاغتيالات والاعتقالات على نطاق واسع، وتدمير البيوت وسرقة الأرض والمياه وبناء الجدران وتسمين وبناء المُستعمرات وشن الحروب الشاملة والمتلاحقة على قطاع غزّة وتهويد مدينة القدس وسن القوانين العنصرية، بل والتنكر لكل الحقوق الفلسطينيّة والعربية.
فيما واصلت الطبقة الفلسطينيّة المُهيمنة،على نفس الوتيرة، سيّاسة الإقصاء والتهميش والقمع واختطاف وتجرّيف مؤسسات "منظمة التحرير الفلسطينية" لصالح كيان أوسلو، والاستنقاع في وحل التنسيق الأمنيّ والفساد، كُل هذا وغيره سَلب الجسد الفلسطيني قُدرته ومناعته على المقاومة، وأضعَفَ الجبهة الداخليّة الفلسطينيّة أمام مواجهة الأخطار والتحدّيات الكبيرة فأصبح الشعب الفلسطيني مُحاصرًا بين كمّاشة الاستعمار الصهيوني وسندان أوسلو ومؤسّساته القمعيّة الفاسدة..
اليوم، بَعد 27 سنة، يَسأل الشعب الفلسطيني: أين "الدولة المُستقلّة" التي راهن البعض على تحقيقها من خلال المفاوصات ودهاليز خديعة "الأرض مُقابل السلام"؟ أين حقوق اللاجئين الفلسطينيين؟ من المسؤول عن واقع التفكك والتشرذم؟ وعن هذه العلاقة المشوهة بين قطاع غزة المُحاصر وبين الضفة المُحتلّة التي يبتلعها ويهضمها غول الاستيطان؟
وبعد 27 سنة تراجعت الفصائل الوطنيّة والإسلامية أيضاً: لنتذكر كيف أعلنت عشرة فصائل فلسطينيّة عن تشكيل "تحالف القوى العشر" رَداً على اتفاق أوسلو في واشنطن عام 1993، كان الهدف المُعلن "للتحالف" أمام الجماهير الفلسطينية والعربية هو إسقاط الاتفاق الخيانيّ وتشكيل جبهة وطنيّة موحدة تَضُم كافة قوى المقاومة؛ غير أن هذا التحالف تفكك تدريجيًا ولم يعُد موجودًا أصلاً.
الفصائل التي شاركت في التحالف المذكور حضرت قبل أيام قليلة "مهرجان المصالحة" في رام الله وبيروت وأعلنت عن ثقتها بمواقف ومبادرة "الرئيس" محمود عباس مُهندس الاتفاق الخياني الكارثي، وهو الذي وقع شخصيًا على إعلان بيع فلسطين في حديقة البيت الأبيض أيلول(سبتمبر) 1993.
إن الشريحة التي تُسمي نفسها بــ " القيادة الفلسطينية " لا تزال - رغم حقائق الواقع الصارخة- تُكابر وتُعادي كل صوت يدعو إلى إجراء مُراجعة سيّاسية شاملة، بل تستهدف كل جِهة وشخصيّة وطنيّة وقوميّة تدعوها إلى الإقلاع عن النهج المدّمر الذي كرّسته وسَلكته طوال العقود والسنوات الماضيّة.
اليوم يعيش كيّان أوسلو أزمة شاملة، إنها في الواقع أزمة الطغمة المالية الفلسطينية التابعة والملحقة بكيان العدو، هذه تعيش أزمة خانقة بعد أن وصل مشروعها إلى الفشل، وتريد حَلّها على حساب الشعب الفلسطيني، ومن جيب الطبقات الشعبية، تماما كما تفعل أيّ طغمة مالية حاكمة في هذا العالم..
المَسار السيّاسي – الاقتصادي الذي تجسد في اتفاقيات أوسلو صادر صوت الشعب الفلسطيني في الشتات على نحو خاص، وقام بعزل الجماهير عن قضيتها الوطنيّة وسرق مُؤسّساتها واتحاداتها الشعّبية والنقابية وبدد إنجازاتها الوطنية التي حققتها بالنضال والتضحيات الجسام، كما سَلبها حَقِها في المشاركة وصناعة القرار السياسي وقام بتعطيل وتزوير الميثاق الوطني الفلسطيني؛ ألغى مؤسسة المجلس الوطني الفلسطيني وهَيمن بالكامل على موارد الصندوق القومي الفلسطيني، كل هذا وغيره من جرائم سياسية كان في واقع الأمر هَدفًا صُهيونيًا أمريكيًا ثابتاً وراء إطلاق عمليّة "السلام" التي كان جوهرها تأسيس كيان فلسطيني عميل يقوم بالمشاركة الفعلية في تصفية القضية الفلسطينية، وهذا المسار هو الذي أسس إلى سُلطة الحكم الاداري الذّاتي في بعض مناطق الضفّة المُحتلّة!
لم يكُن تأسيس كيّان السلطة الفلسطينية ونظام الكانتونات والمعازل؛ إلا الاسم الجديد لمشاريع قديمة مثل "روابط القرى" و "سلطة الحُكم الذّاتي" و "الحكومة الفلسطينيّة" و "مشروع التقاسم الوظيفي" وغيرها من يافطات تآمرية شكلت بديلاً عن مشروع التحرير والعودة الذي انطلق مع بواكير العمل الفدائيّ في أوائل الستينيات من القرن الماضي، وظل العدوّ الصهيوني يسعى بكل الوسائل، الخشنة والناعمة وما بينهما، إلى تفرّيغ هذا الخيار الثوريّ الفلسطينيّ من جوهره التحرّري وحَرفهِ عن هدفه الصحيح ومساره الطبيعيّ. وإذا كان "أوسلو" عبثيًا وكارثيًا بالنسبة للفلسطينيين، وهو كذلك، فلم يكُن على هذا النحو بالنسبة للكيّان الصهيوني؛ كان ربحًا صافيًا للعدوّ وللولايات المتحدة ومُعسكرها في المنطقة، إذ جرى تحوّل "المنظمة" إلى نقيضها، وانتقل مركز القرار إلى "الداخل"، فأصبح رهينة تحت الاحتلال والضغط المباشر، وصارت المؤسسات الوطنية في قبضة طبقة فلسطينية من كبار الرأسماليين تعتاش على جسد القضية وفُتات التسوية و"السلام الاقتصادي" وما تُلقيه قوى الإمبريالية والرّجعية لها مقابل دورها الأمنيّ والاقتصاديّ والسيّاسي، المرّسوم والمُحدد سَلفًا في إتفاق أوسلو وملحقاته، وخاصة "بروتوكول باريس" الاقتصاديّ.
هذا الواقع الجديد الذي نشأ مع تأسيس كيان أوسلو ( السلطة) أطلق يد العدوّ الصهيوني دون رادع ليرتكب أبشع المجازر الوحشية بحق الشعب الفلسطيني في الضفة وقطاع غزّة بشكل خاص، وفي عموم فلسطين المحتلة، وتخلّص الاحتلال من كل مسؤوليّاته القانونية والاقتصاديّة والسيّاسية بوصفة قوة احتلال، كما خرجت قضيّة فلسطين من مُؤسّسات الأمم المتحدة بالتدريج إلى دهاليز الاتفاقيات والمفاوضات الثنائيّة بالرّعاية الأمريكيّة المباشرة!
وهذا النهج المُدَمِر هو ذاته الذي فتح باب التطبيع واسعًا بين عشرات الدول العربيّة والإسلامية وغيرها مع كيان الاحتلال الصهيوني، وساهم في تعميم ثقافة الهزيمة وتشريع التعاون الأمني مع قوات وأجهزة العدوّ الصهيوني (محاربة الإرهاب)، خاصة حصار وضرب قوى المقاومة الفلسطينية وصولاً إلى اغتيال بعض طلائعها الوطنية.
**
خُلاصة:
مَضى على توقيع اتفاقيات أوسلو الخيانية 27 عامًا، وهذا يعني أن جيلًا فلسطينيًا جديدًا وُلِد في الوطن والشتات، وتضاعف عدد الشعب الفلسطيني من ستة ملايين ونصف إلى نحو 13 مليونًا.
وصار من الطبيعي، بل ومن الواجب أيضاً، أن يتقدم الجيل الفلسطيني/العربي الجديد من الشباب الوطني الثوري ليتحمل مسؤوليته الوطنية والتاريخية وينتزع رّاية الكفاح الوطني ولواء التحرير والعودة، كما أصبح تحرير الطاقات الفلسطينيّة الكامنة ومواجهة مشاريع الشطب والتبديد والتصفية، مسألة حياة أو موت؛ مسألة وجودية.
إن تحقيق هذا الهدف أعلاه يقتضي القطع الكامل مع كيان أوسلو الوكيل وتجاوز الاتفاقيات اللاشرعية التي انتجته، وهي لا تُلزم الشعب الفلسطيني أصلًا، هذا يعني الشروع في تحديد البرامج النضاليّة والأهداف المباشرة والاستراتيجية البديلة الممكنة والمطلوبة.
لا طريق أمام الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة الجذرية إلا بإطلاق حركة فلسطينية شعبية واسعة في فلسطين والشتات؛ تُجابه الحركة الصهيونية وكيانها الاستعماري في فلسطين، وتتصدى في الوقت ذاته إلى مشروع الطبقة الفلسطينية العميلة التي سرقت تضحيات الفلسطينيين وإنجازاتهم، وأصبح كيانها؛ كيان أوسلو، خصمًا للشعب الفلسطيني وجزءًا لا يتجزأ من مشروع التّصفية.
خالد بركات كاتب فلسطيني