وليد عبد الرحيم :مازال الكنفاني ساحر العمق الثوري الإنساني مستمراً
مقالات
2022-03-19

شخصيات في الذاكرة(١٤)
غسان كنفاني
لا تستغربوا!، فقد استشهد غسان وأنا ابن سنواتٍ سبع، لكن قصة ما حدثت فيما بعد غيرت كيان الطفل الشقي، حيث كانت وقتها نصوص غسان تتواجد بكثرة في الكتب المدرسية قبل أن يتم حذفها تدريجياً منها...
قرأت أم سعد في كتاب القراءة، وللعلم فإن جدتي لأمي اسمها أم سعد، وهي شخصية لا يمكن التكهن بتركيبتها أو توصيفها سوى من عالمها الخارجي، جميلة جدا تشبه أولئك الملائكة في رسومات القرن الخامس عشر، لا يُسمع صوتها، حتى عندما زارت فلسطين، ومكثت في قريتنا" نحف- عكا" وقامت حينها حرب تشرين اكتوبر ١٩٧٣ عادت صامتة لتجد ابنها الفدائي المخضرم أحمد " أبو الليل" قد استشهد في الجولان، على مشارف طبريا التي وصلها الفدائيون وجيش التحرير ثم عادوا منسحبين وحاملين جثامين الشهداء وركام الجرحى...
كتب غسان" أم سعد"، وسرت شائعات كاذبات عن أنها شخصية عائشة- جدتي لأمي ذاتها، وعزز ذلك أنه ذكر في سطوره" نحف"، فما كان من بعض أفراد العائلة الذين لم يقرأوا شيئاً لغسان، بل سمعوا به وعنه -مثل أولئك الذين يؤمون المقاهي والحانات فيسمعون باسم كاتب أو مخرج لم يقرأوه ثم يكررون طيلة حياتهم ما سمعوه عنه- إلا أن يفخروا بجدتي المسكينة...
تطور الأمر بعد أن سُمح لجورج حبش بالعودة، ودخل مخيم اليرموك وألقى خطابا في مدرسة المنصورة، حيث كان عشرات الآلاف في استقباله بالهتافات في مكان لا يتسع حتى لألفي شخص! ...
صرخ الخطيب المقدس، الكاريزما الاستثناء، جورج حبش بكلماته الثورية، وعندما نطق اسم غسان بصوت عالٍ مكلومٍ" الشهيد غسان كنفاني" ارتجت جدران بيوت مخيم اليرموك، ليس من أثر صوت الحكيم، بل من تفاعل الآلاف بصوت واحد ومن أثر تصفيقهم الدموي المدوي..
كنت في الإعدادية وقتها، أحاول رؤية الحكيم عن قرب لكن ذلك مستحيل، فقط أردتُ التأكد من أنه كائن مثلنا ، بعينين اثنتين، وقدمين ورأس واحدة!.
قرأت بعدها " رجال في الشمس" أكثر مما قرأها غسان نفسه، ربما لخمسة عشر مرة، وفي كل مرة أسأل نفسي كيف استطاع أن يصرح بهذه الجملة ومن أي خزان أتت؟! " لماذا لم تقرعوا جدران الخزان، وفي سطر آخر لماذا لم تدقوا جدران الخزان"، وأي زخم حسي ومعرفي حذا به ليستطيع قول ذلك!؟
لا يعرف الفلسطينيون والعرب تماماً غسان كنفاني، كل فرد منا يدرك جانباً جزئياً منه، الكاتب، الإعلامي، التشكيلي، المدرس، المناضل، والأسوأ من ذلك هم من لا يعرفونه إلا شهيداً!!
أكثر من عرف غسان هم النازيون الصهاينة، أولهم الإرهابية غولدا مائير رئيسة حكومة القتلة، التي كانت ترأس اللجنة التي قررت اغتياله، حيث وضعت دائرة بقلم أحمر حول اسمه على ورقة عرفت فيما بعد باسم " قائمة غولدا" وهي تعج بأسماء لشخصيات مهمة غالبيتهم من رواد الفكر والثقافةو ينبغي اغتيالهم ، ووافقت اللجنة على غسان، تلك اللجنة الحكومية التي تضم نخبة المجرمين والإرهابيين منهم رحبعام زئيفي الذي أعدمته الجبهة الشعبية عام ٢٠٠١ في فندق حياة ريجنسي في القدس، أي بعد ثلاثين عاماً من اغتيال غسان، ولينتبه إلى ذلك كل من يقتل الفلسطينيين...
ظلت تلك الجملة تتكاثر في دواخلي، حتى صرت أنظر إليها كمادة نظرية متكاملة يتم اختصارها في جملة" لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟، وكما يوردها غسان فهي مرة "تدقوا" ومرة أخرى "تقرعوا" والمعنى مختلف بتبديل المفردات، أي بين الدق والقرع، ويا للهول كم هما مختلفتان!.
قرأت كل ما كتب، وأنجزت عنه كتاباً وما يفوق خمسة عشرة مقالة، خلال سنوات طوال.
وما زال الكنفاني ساحر العمق الثوري الإنساني مستمراً ، وكلماته تفوح رائحتها في كل صوب ثوري حداثوي، ومن كل ناحية، فقد ناضل وكتب ورسم ودرس الطلبة وشارك في العمليات والصحافة وأسس إعلام الجبهة الشعبية، ونسج العلاقات العميقة مع مثقفي ومبدعي الغرب وثواره من الدنمارك التي تزوج منها حتى اليابان التي جند عناصرها في الثورة الفلسطينية، ولم تتسع له ساعة الحياة لأكثر من ستة وثلاثين عاما.
بالمناسبة ولد عام ١٩٣٦، ولديه ٣٦ مؤلفا، واغتيل وعمره ٣٦ عاما.
وهكذا يا صاح ، وبالتزامن مع عيد المعلم، قم لغسان ووفه التبجيلا...
كل عام وأنت بخير يا غسان، وكل عام ونحن بغير حسرتنا، وننتهي من تكاثر الخزانات والخيزرانات، ولا يقلُّ الدَّق والقارعون، كما وتكاثر الانتهازيين وتجار المكاتب والجمل المكررة وسائر الموبقات...