من الأسر….الحلقة الأولى
فالثورة ليست عدة ألاف بل هي فكرة التمرد والمقاومة للاحتلال
مِنَ الأسر.. الحلقة الأولى
في ثمانينيات القرن الماضي، كان من عادة الأسرى في سجون العدو، عندما يصل أسيراً جديداً يقف من في الغرف على الأبواب لرؤية القادم الجديد عسى لأحدهم أن يتعرف إليه، أما من في الساحة فيصطفون على جوانبها لكي يقوم الأسير الجديد بمصافحة كل الأسرى دون استثناء، أما من يتعرف إليه فيعانقه، وهكذا يواصل الأسير الجديد مصافحته للأسرى حتى أخرهم، ثم يدعوهم أحد الأسرى للجلوس على الأرض فيتحلقون حول القادم الجديد وكأنه نجم سقط عليهم من السماء، ففي جعبته أخباراً عن ما وراء الجدران والأسلاك الشائكة ،، عادة من يتحدث هو ممثل المعتقل (أي المتحدث باسم الأسرى أمام رجالات إدارة السجن وضباط إدارة السجون)، متوجهاً بالسؤال للأسير الجديد عن اسمه ومسقط رأسه، فيقدم الأسير الجديد نفسه مصاباً ببعض التوتر أمام كل هذه الوجوه التي ترنو إليه والتي غيبتها الغرف الإسمنتية سنوات طويلة، حيث يجول في خاطر كل واحد منهم الكثير من الأسئلة التي يصاحبها رغبة بالتعرف إلى هذا الأسير، لتنتهي هنا (الفوره) ولكن الأسئلة والإجابات عليها لم ولن تنتهي في غضون ساعه وأقل.
معظم الأسئلة عامة تتصل بالناس والأوضاع خارج السجون والحياة بشكل عام وعن فلان من بلدته أو هل يعرف فلان وعلان بالجامعة، أسئلة كثيره خاصة من أبناء منطقته أو من له معهم معارف مشتركين، وهنا يقارن الأسير الجديد في نفسه ما بين أسئلة المحققين وأسئلة الرفاق والأخوة الذين هو جزء منهم فشتان ما بينهما، وهو مسرور لأنه وصل السجن أخيراً بعد رحلة التعذيب خلال فترة التحقيق التي عادةً ما يذوق خلالها الأسير عذاباً وتنكيلاً وإذلالاً ومحاولات للاغتيال النفسي والمعنوي ومع البعض الاغتيال الجسدي، علماً أن الصمود والصبر على ما يتجرعه هذا الأسير من صنوف العذاب يعتمد على التجربة ومستوى الوعي لدى المناضل، ولأن عدونا مجرم فإن حالة العداء تُسلح الأسير بصبر وقوة وإرادة تجعل الأسرى يواجهونه بصلابه وينتصرون عليه.
هذا اللقاء مع الأسرى بوجوههم النحيلة والشاحبة من كافة المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية ومن دول عربية ومن داخل الوطن وخارجه وحتى من جنسيات غير عربية خلق لديه إحساس بأنه يشعر بانتمائه لوطنه وشعبه بشعور جديد لم يعشه من قبل، فالثورة ليست عدة ألاف بل هي فكرة التمرد والمقاومة للاحتلال وهناك من يتقاطع معه كثيرون.
بعد انقضاء (الفوره) يعود الأسير الجديد مع زملائه للغرفة التي تم تحديدها له، هناك حيث يرحب رفاقه به، فيتسابقوا على من يتنازل له عن سريره ويقدم له ملابس نظيفة ويرتبوا له (برشا)، ويجتمعون حوله لمتابعة أسئلتهم وهو يجيب بما يعرف، ويسارعون لإعداد وجبة العشاء بما هو متوفر (شوية لبنه وقطعه من الخبز وشوية مربى وكأس من الشاي) ، فيشاركهم الطعام فهو منذ اعتقاله لم يشعر بطيب الطعام كما الآن على الرغم من قلته، فلا أحد من الأسرى ينام إلا جائعاً، لكن دفء الرفاق واهتمامهم الذي يقارب حنان الأم ودفء العائلة هو من يجعله صابراً، وبعد أن تم تنظيف بعضهم لأدوات الطعام وكلها بلاستيكية، والبعض الأخر قاموا بتنظيف وغسل أرضية الغرفة، وتناول كل منهم سيجارة “العمر أو الخنتريش” وهي من أسوء أنواع السجائر، لكنها ومعها كأس من الشاي تصبح أكثر تقبلاً.
بعدها بدقائق يدعو مسؤول الغرفة الرفاق للتجمع بجلسة ترحيب بالرفيق الجديد، ليضعوا بعض من البزر وقطع من البسكويت ويلتفوا حول نفس الطاولة ويدلوا بما جادت به خبرتهم ويتسامروا بالضحك بعد أن نقبوا في ذاكرة الرفيق عن كل المعلومات التي تفيدهم، لتستمر جلسة المرح لساعتين إلى حين موعد إطفاء الضوء من قبل السجان، ليأوي الجميع كل إلى سريره موفرين هدوء لمن يرغب بالنوم.
لتشرق شمس صباح اليوم التالي معلنةً معاناة جديدة للأسير وراء قضبان حديدية لا تختلف في قسوتها عن قسوة جباه السجان المحتل واعتداءاته.
الأسير المحرر أحمد أبو السعود عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين