ثقافة

من الأسر .. الحلقة الثاني

من الأسر .. الحلقة الثانية
يوم 23 من شهر أيار عام 1987 كان أخر عمل تقوم به مجموعتنا “بناء” وهو تصفية العميل رئيس بلدية جنين المُعين من قبل الاحتلال ويدعى عبدالله اللحلوح، حيث لم يتبقى معنا سوى أربع رصاصات بعد استمرار مجموعتنا بالعمل السري لخمسة أعوام، وكنا توافقنا على اطلاق رصاصتين على رأسه وابقاء الأخيرتين لمواجهة أي خطر من أي كان، خاصة وأن لدينا معلومة بأن مع اللحلوح حراسات من قوات “لحد” العميلة ، حيث أن هذا العميل معروف في كل المنطقة بعمالته العميقة مع الاحتلال، بدأنا برصد الموقع عدة مرات ووضعنا خطة التنفيذ والانسحاب، وفعلا نفذنا كل الخطة كما حددناها تماما وقمنا بعملية الانسحاب والعودة الى المنزل وكأن شيئا لم يكن .
بالساعة الحادية عشره ليلاً داهمت قوات الجيش منزل صاحب السيارة التي شاركت في عملية التنفيذ وكعادتهم أوغلوا في الطرق على الأبواب وخلق الضجيج بالمنطقة وكأنهم يقتحمون قاعدة عسكريه، فتح لهم الباب بعد أن استيقظت زوجته وأطفاله وأخذ هويته وأعطى الجزدان لزوجته وفتح الباب بعد أن هددوا بنسفه، وفوراً سألوه هل أنت فلان أجابهم نعم فقبضوا عليه وفتشوه وسحبوه لغرفة ثانيه وبدؤا معه التحقيق مباشرة بسؤاله أين المسدس، نحن نعلم كل شيء، دعنا نأخذه حتى لا نزعج أسرتك وكل المنطقة مرة أخرى، وهو كأمر طبيعي نفى معرفته عن ماذا يتحدثون فلا يفهم عليهم ، وبدؤا بمحاولة خنقه وضربه على كافة أنحاء جسده محاولين استغلال لحظة المفاجأة لانتزاع أية معلومة منه ، لكنهم فشلوا .
بعد نصف ساعه من التحقيق معه ومع زوجته وهي بالغرفة الأخرى مع الاطفال، يسألونها أين ذهب ومتى عاد للبيت وأسئلة أخرى علمها فيما بعد، قيدوه وعصبوا عيونه وسحبوه مسافة حتى وصلوا للسيارات، تم إلقائه بأرضية الجيب العسكري يحيط به عدد من الجنود الذين شرعوا بضربه على طريقتهم بأحذيتهم على جميع أنحاء جسده، وحرقه بالسجائر، وشد الكلبشات لأخر مدى حتى أن يديه تورمت خلال أقل من نصف ساعه مسافة الطريق بين منزله والسجن الذي فيه مركز التحقيق.
على عجل عملوا اجراءاتهم الإدارية باعتقاله وأخذوا ما معه وعلى الفور تم ادخاله إلى زنازين التحقيق، منذ قرابة الساعة كان نائما ومسترخياً والآن مشبوحاً واقفاً برأسه كيسان فوق بعضهما لمنع التنفس عنه او خنقه ببطء ومربوط بعدة كلبشات وبماسورة مزروعة بالحائط، وقت قصير حاول خلاله ترتيب أفكاره ومحاولة التركيز كي يواجه المحققين فهو على أبواب معركة التحقيق التي سيخوضها منفرداً لكنه متسلحاً بإيمانه بعدالة قضيته وأن هؤلاء ما هم سوى قطعان من المستوطنين اغتصبوا أرضه ويغتصبوا كامل حقوق شعبه.
تقدم أحد المحققين وفك قيوده من ماسورة الحائط وسحبه من ذراعه لأنه لا يرى شيئاً وأدخله إلى غرفة تحقيق لا يوجد فيها سوى طاوله وكرسي وجدرانها خشنه عليها رشة باطون تجعلها كالمسامير، بعد تفكير لماذا لا تكون الجدران ناعمه كما كل البيوت في العالم فخلص إلى استنتاج أن الهدف هو إلحاق الأذى الأكبر بالمعتقل حين يضربون رأسه بالجدار أو يسحبون جانب وجهه على الجدار، أخرجه صوت المحقق من تفكيره بأسئلته المتتاليه عن المسدس لأن أمره مكشوف ولا داعي لأن يواجه أصناف من التعذيب فبالنهاية سوف يعترف وما إلى ذلك، كان جوابه لا أدري عن ماذا تتحدث فأنا لا أعرف شيئاً عما تقوله، أنا مجرد عامل وأعمل حوالي 12 ساعه يومياً كي أعيش وأسرتي ولا شيء غير ذلك، حملت هذه الجلسه تهديد وأجواء رعب وإغراءات بـأنه لو يعترف أحسن له ولأسرته ليطلب له حكماً مخففاً ….الخ.
امتدت جلسة التحقيق قرابة الساعة، بعدها أعيد إلى الشبح من جديد، مكث بعدها عدة ساعات مشبوحاً، و قدر أن الهدف منها إرهاقه بالشبح لأنه فعلاً مؤلماً جداً، ولكن كما يبدو قام عدد من طاقم التحقيق بدراسة حالته وما هي الأساليب المناسبة لاستخدامها معه على الأقل بالجلسة القادمة، مضت عدة ساعات وأعيد مرة أخرى للتحقيق لكن هذه المرة شرعوا بضربه مجرد أن وطأت قدمه الغرفه، الضرب على رأسه وبطنه وكافة أنحاء جسده، أوقعوه على الارض ولم يتركوا مكاناً بجسمه إلا ناله الضرب بالأرجل والأيدي حتى تعبوا، هي نصف ساعه أو أكثر وربما أقل لا يدري لكنه يعلم بأنه يتألم في كل أنحاء جسده .
أعيد إلى الشبح بدون أن يوجهوا له أية أسئلة، ربع ساعه تقريباً وأعيد لجلسة تحقيق أخرى مع محقق وحيد وبعد رفع الأكياس عن رأسه أجلسه على كرسي قبالته، وبدأ ينهال عليه بالأسئلة متى خرجت من البيت صباحاً ومن كان معك وأين ذهبت وغيرها الكثير من الأسئلة، وهو اختصر الإجابة على أنه ذهب للمدينة وهي ليست جنين بطبيعة الحال حتى الظهر وعاد للقرية.
استغرقت الجولة ساعه تخللها ترهيب من القادم وترغيب بأنه لن يطول بقاؤه بالتحقيق وبالسجن وسيعود بعد وقت قصير لأسرته، بلا فائده.
وأعيد للشبح ساعات طويله، وهكذا كانت البداية ترغيب وترهيب وضرب وشبح ومنع من النوم ومن الحمام ومن الطعام، وفي كل الوقت تهديدات باعتقال أسرته، وتبين فيما بعد أنهم فعلاً اعتقلوا زوجته كانت تحمل ابنته الرضيعة وعمرها لا يتجاوز الأسبوعين واعتقلوا شقيقه الأصغر وطلبوا أشقاءه للتحقيق معهم، واعتقلوا كل من كان يعمل وإياهم وبعض أصدقائه لفترة ثمانية عشر يوماً، شارك عدة ضباط محققين باستجوابه ولم يتركوا طريقة أو وسيله إلا واتبعوها علهم يصلوا لنتيجه دون فائده، فقاموا بنقله لمركز تحقيق جنين ووضعوا له عميل بالزنزانة ، حيث يحققوا معه نهاراً ويعيدوه للزنزانة ليلاً ليقضي الليل مع العميل، ولأنه يعلم أنه لا ينبغي أن يثق بأي إنسان أياً يكن فكان لا يرد على أسئلة العميل ويعيد إليه الأسئلة، عشرة أيام نهاراً شبح وضرب وجوع وأوجاع وليلاً مع عملاء يتم استبدالهم، ثم أعيد الى مركز تحقيق نابلس ومرة أخرى نال ما نال من ضرب وشبح وإهانات وشتائم وأذى نفسي ومعنوي، وكلما أخرجوه لتمديد فترة اعتقاله لمزيد من التحقيق كان يتلقى ضرباً من السجانين والشرطة المرافقين له بالخروج والعوده لكنه بقي قوياً لأنه يشعر بسعادة كلما هزم المحققين بكل جوله وهو يعرف أساليب التحقيق ولم يتفاجئ بأي أسلوب .
يمكن القول أن العشرين يوماً الأولى مضت بتحقيق متواصل وضغط قوي لانتزاع اعتراف منه، وعندما تيقنوا من فشلهم، كما يبدوا أرادوا تغير المكان والوجوه وربما الأساليب، فتم نقله الى مركز تحقيق العاصمه وكانت الأيام الأولى للاستقبال قاسيه كلها ضرب على كافة أنحاء الجسد والخنق والهز وشد الخصيتين والحرمان من النوم، وأسلوب تشتيت العقل بأسئلة متتاليه ومن مجموعة محققين دفعة واحده، تليها جولة ضرب وتهشيم وتكسير، كانت أقسى الأساليب أن تبقى مشبوحاً لأيام واقفاً ومحروم من النوم، فهناك عسكري يراقب إذا ما سكن قليلا يأتي بالماء ويصبه عليه فتبتل ملابسه ويبقى هكذا طوال الليل والنهار لا يريحه نسبياً سوى فترات التحقيق.

الأسير المحرر أحمد أبو السعود عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى