مِنَ الأسر الحلقة الخامسة
قضى صاحبنا طوال فترة التحقيق ثلاثة شهور وهو في أقبية التحقيق التي شكلت له عالماً لا علاقة له بالحياة البشرية، لم يمشي فيها سوى من ساحة الشبح إلى غرفة التحقيق، أو من مركز التحقيق إلى سيارة البوسطه التي عادة ما تكون على الباب أو داخل مبنى المركز، وبسبب حرمانه من الطعام انخفض وزنه عشرين كيلوا تقريباً فما عاد بنطاله يثبت على جسده الهزيل إلا بعد أن استعان بخيط من البطانيه ليجعله بديلاً للحزام، هذا وقد أصيب بأمراض جلديه نتيجة الأوساخ المتراكمة بالزنازين، كذلك طاله ألم في مفاصله جراء الرطوبة وتستمر هذه الآلام لغاية الآن وخاصة في أوقات البرد، وسوء التهوية فلا وجود لأي فتحة بالزنزانة سوى شقوق الباب، وبعض الزنازين لها فتحة بالباب صغيرة الحجم، ناهيك عن أوجاع أخرى تلازمه ألحقها به بالتحقيق وباتت مزمنة بعد أن قضى بالسجن ربع قرن وأكثر، حالته ليست مختلفة لأن مثله المئات ممن قضوا عشرات السنين بالسجون، فمنهم من وصل وجوده بالسجون لأكثر من أربعين عاماً والعشرات أمضوا ثلاثين عاماً وأكثر وما يزال العشرات منهم لغاية الآن مكبلين بالقيود ويعانون أشد وأشرس بل أفظع وضع منذ احتلال ما تبقى من الأرض الفلسطينية عام 1967، وهناك المئات ممن استشهدوا داخل السجون أثناء التحقيق معهم منهم نتيجة الضرب القاتل بالسجون ومنهم نتيجة للأمراض الفتاكة وغيرها.
بعد مضي الثلاثة شهور تم اخراجه إلى غرفة يتجمع فيها أمثاله ممن انتهى التحقيق معهم وتسمى غرفة أو غرف الموقوفين بانتظار المحاكمة، الحياة فيها أفضل حالاً من زنازين التحقيق، لكن الوضع هنا غير مستقر وفيه توتر يومي بسبب ممارسات السجانين الاستفزازية وانعدام خبرة المعتقلين، وضعف حالة التنظيم الداخلي للمعتقلين.
عادةً ما يتم طلب أحد المعتقلين إما إلى التحقيق أو إلى المحكمة للنظر في قضيته أو للمحامي، في صبيحة يومٍ نودي اسم صاحبنا وسرعان ما كان جاهزاً على الباب، سار خلف السجان إلى مدخل المركز تم تسجيل اسمه وربط أياديه بالكلبشات وكذلك قدميه ووضع كيس القماش على رأسه وسحبه أحد أفراد حرس الحدود إلى أن أوصله إلى سيارة جيب عسكريه أرشده للصعود وهو لا يرى شيئاً وأجلسه بأرضية السيارة، لم يمض وقت حتى تم تشغيل السيارة والسير خارج المركز، وما إن خرجت حتى بدأت حفلة الجنود بالضرب على رأسه بما أويت أيديهم من أدوات واستمرت عملية الضرب والشتم والكي بالسجائر حتى وصلت السيارة إلى المبنى الذي فيه المحكمة بنابلس، وقد علم بعض الجنود ممن كانوا بالسيارة أن الاتهامات الموجهة له فيها عملية تصفيه لضابط يعرفونه وجرح جندي أخر، وكما يبدو رتبوا الأمر مع الجنود في مبنى المقاطعة بنابلس، وفي سجن نابلس المحاذي للمقاطعة كي ينتقموا منه بعد أن يخرج من المحكمة، لكن الذي حصل أنهم تجمعوا واقتحموا عليه زنزانة الانتظار بعد أن خرج من عند القاضي، وافرغوا حقدهم وغلهم الدفين والمعادي لكل من هو فلسطيني فاستعملوا بنادقهم وما تيسر لهم من عصي وأدوات وبأحذيتهم حتى أشبعوه تكسيراً وتعبوا، ثم أخرجوه سريعاً بالسيارة، وذهبوا إلى باب السجن ليأتي ثلة من السجانين لينهالوا عليه الضرب من جديد هذه المرة بالعصي وهو بالسيارة على كل أنحاء جسده وخاصة على مفاصل أرجله ويديه، باختصار حطموه وافرغوا حقدهم به.
أعيد لغرفة التوقيف بمركز العاصمة وتلقى رعاية من زملائه، ورغم الألم والكسور التي أصابته كرر لرفاقه مقولة “إن الضرب الذي لا يميتنا يزيدنا قوه، ويزيدنا حقداً على حقد على الأعداء”، تماثل للشفاء وبعد قرابة الأسبوعين أو أكثر أعيد للمحكمة وتعرض لذات السيناريو السابق بالطريق، وكان أهالينا بانتظار حضور المحاكمة لكن لكثرة الجنود وأهالي من تم تصفيتهم من جنود ومستوطنين، كما يبدو كان هناك من نصح أهالينا بعدم الدخول لقاعة المحكمة كي لا تتم الإساءة لهم، فقبل الأهالي إلا والدة صديقنا رفضت ودخلت لمقر المحكمة، ولم يعلم أنها كانت في قاعة المحكمة إلا بعد أكثر من عشرة أعوام ، وحين تم إدخاله ورفيقه نظر إلى القاعة فلم يشاهد والدته من كثرة الجنود الذين كانوا يصرخون ويشتمون عليه وعلى رفيقه، جاءته المحامية وأعطته سراً ورقة فيها بيان ليقرأه حين يمنحه القضاة وهم ثلاثة حق الحديث، سردوا كافة الاتهامات وطالب الادعاء العام بإلقاء حكم الإعدام عليه وعلى رفيقه، لكن المحامية همست لهما أن هذا كلام لن يأخذ به القضاة، ومنحوه حق الحديث فبدأ يقرأ بالبيان الذي يشير إلى مجازرهم بحق أبناء شعبنا في دير ياسين وكفر قاسم، وعن ممارساتهم القمعية وقتلهم للأطفال ومصادرة الأراضي ….. إلخ لكن بعد تلاوته للسطور الأولى طلب منه القاضي أن يتوقف لكنه رفض ما دفع الجنود لأخذ الورقة منه بالقوة، خرج القضاة للاستراحة ولإعداد قرار الحكم، عادوا بعد نصف ساعه ليعلن القاضي الرئيسي أن القاضيين إلى جانبه أيدوا طلب الادعاء بإلقاء حكم الإعدام، لكنه رفض ذلك ويكتفي بالحبس مدى الحياة، أما كيف تم اخراجه ورفيقه من قاعة المحكمة فكانت بطريقه عجيبة حيث حملوهم رجال البوسطه وألقوهم بالجيب الذي أوقفوه على باب المحكمة مباشرة لمنع تلقيهم الضرب من جمهور الجنود الذين ملؤا القاعة والمكان، غير أنهما أكلوا نصيبهم بطريق العودة للعاصمة، وهناك تم ادخالهما إلى زنازين خاصه ليناموا ليلتهم بها وفي الصباح تم اخراجهما إلى سجن أخر ليتقرر أي سجن سيتم إرسالهما إليه.
في الصباح أخرجوا إلى البوسطه مكبلين بالأصفاد ومعهم عدد من المعتقلين، هي ساعة أو أكثر قليلاً حتى وصلت البوسطه إلى سجن الرملة حيث يقع قسم للعابرين إلى السجون ويسمى المعبار، وهو قسم تحت الأرض مكون من جناحين أحدهما للجنائيين والأخر للأمنيين ( لفظ أمنيين يطلقونه على ذوي القضايا العسكرية وكل من له صله بالمقاومة الفلسطينية، لكن نعتهم للأسرى يأتي باسم مخربين وحالياً إرهابيين )، فيه غرفة كبيره نسبياً تتسع لعشرة معتقلين يضعون فيها عشرين وأكثر حسب العدد الذي يصل للمعبار، مكثوا مع إخوانهم ورفاقهم ساعات النهار، وليلاً تجمع كافة المعتقلين ليتحدث إليهم جميعاً أحد الأسرى القدامى والذي مضى على اعتقاله حينذاك 14 عاماً وهو الأسير الذي أنهى حكمه عشرين عاماً وتحرر الأخ هشام عبد الرازق وكان حينها يشغل مهمة ممثلاً لمعتقل نفحه وجيء به للعلاج، بدأ بالتعريف عن نفسه وكل من الموجودين عرف عن اسمه وحكمه والسجن الذي يقيم فيه وبلده، ثم قدم تحليلاً سياسياً للوضع خاصة عن وضع لبنان، كما جرت العادة يبلغ السجانون المعتقلين كلاً منهم إلى أي سجن سيتوجه ليحضر نفسه بالسادسة صباحاً، وصديقنا أبلغ إلى سجن نفحه، مهم القول أن رحلة المعبار قاسيه جداً فمن يقيم فيه أياماً يكون قدم للعلاج أي ليأخذوه لطبيب بما يسمى مستشفى الرملة يزيد مرضه من الرطوبة في الغرف أو زنازين المعبار، وسوء الطعام، والمعاملة القاسية وساعات بل أيام الانتظار الطويلة وغير ذلك، أي أن الوقت بالمعبار قاس جداً، تجري التفتيشات للمعتقل ولأغراضه ويتم مصادرة أي شيء يراه السجان ولا يرغب أن يبقى مع الأسير أو المعتقل، جاء الصباح وأخرج المعتقلين كل إلى البوسطه المتجهة للسجن المبلغ به المعتقل، وصديقنا صعد مع أخرين للبوسطه مكبل الأيدي والأرجل وسارت بهم البوسطه متجهة جهة جنوب فلسطين، وحطت في سجن بئر السبع لينتظروا حتى ساعات المساء وتحضر بوسطه من سجن نفحه وتنقل الأسرى إلى سجن نفحه .
يتبع
الأسير المحرر احمد أبو السعود عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين