أخبار الجبهة

من الأسر …الحلقة السادسة

بقلم الأسير المحرر أحمد ابو السعود

من الأسر
الحلقة السادسة
في أوقات كثيرة تصبح حياة الأسر روتينية جداً، ولو لم تكن هناك عملية تنظيمية وثقافية ورعاية واهتمام لما تميزت حياة المناضلين عن حياة الجنائيين، رغم البرامج اليومية والفصلية والوقفات السنوية التي تحدث بعض التغيرات لأصاب الأسرى كثير من الملل, لأن هناك وقتاً فراغ يتبقى خلال اليوم الواحد يخصصه الأسير إلى الانغلاق على نفسه وخلال ذلك قد يفكر بأسرته إن كان متزوجاً وبأبنائه، أو بوالديه، والطالب بمستقبله، والغالبية الساحقة من الأسرى غير متزوجين، فالمحكوم مؤبد أي مدى الحياة يتساءل في كل الأوقات هل يمكن أن أتحرر يوماً ما واتزوج ويصبح عندي أسرة، وإذا خرجت بعمر كبير ومصاب بعدد من الأمراض هل تقبل بي فتاة اختارها أم أي فتاة، أم لن أتحرر وأموت هنا مثل فلان وعلان، أحياناً يعيش همومه الشخصية لكن الوقت الأكثر يقضيه مع الرفاق والمناضلين وتفكيرهم يتعدى الجانب الشخصي لترتقي للهموم الكبيرة التي ناضل ويناضل من أجلها، التي تسيطر على تفكيره واهتمامه وعلى لبه ومستقبله ومعظم إن لم يكن كل حياته والدليل على ذلك أن الغالبية الساحقة من الأسرى الذين يتحررون يواصلون النضال والمقاومة وكثيرون من يعاد بهم إلى الأسر مرة ومراتـ وكثيرون من استشهدوا بعمليات بطولية بعد تحررهم من الأسر.
في المرة الأولى يصل الأسير إلى السجن كما يقال خام لا يعرف إلا القليل وهناك يتعلم الكثير وأهم ما يتعلمه عمق الانتماء لوطنه وقضيته ومعاداته للاحتلال والقهر والظلم، أينما وجد على سطح الارض، يتعلم أن يكون متسامحاً مع الأخرين لأنه كلما أخطأ يطلبون منه أن يتأسف لمن أخطأ بحقه والعكس صحيح، يتعلم أن يكون معطاء بدون مقابل لأن أصل وجوده بالأسر لا مقابل له إلا قضية وطنية عامة وحريته وحرية شعبه، يتعلم أن يكون يقظاً ويتابع ما يدور من حوله، وفوق وقبل كل هذا يتعلم أن يكون إنساناً محب للأطفال ويتعاطف مع الفقراء والمقهورين ومساعدة الأخرين، حياة الجماعة المقيدة لسنوات خلف الجدران ليست كأي حياة.
صديقنا ليس خارج كل هذا الواقع بل عاشه وتأثر به، وبدأ يراكم بالوعي والمعرفة بشكل بطيء وتدريجي، بعد أن وجد فجوة كبيرة بينه ورفاقه وشعر بالإحراج عندما وجد نفسه غير قادر على الحديث أمام الجماعة في وقت رفاق أصغر منه يعبرون عن آرائهم بطلاقة، فوجد أن يعالج هذا النقص لديه من خلال القراءة الكثيفة، فطلب عون رفيق له فأشار إلى صندوق خشبي طوله متر وعرضه متر مقسم لأربع خانات ومعلق على الجدار مليء بالكراسات وكل كراس فيها مجلد يحتوي على أكثر من مئة صفحة، هذه الكراريس متنوعة المواد منها ما هو تنظيمي، وما هو تربوي وما هو أمني وما هو سياسي وأخرى عبارة عن مجلات أو كتب نادرة تم نسخها بكراس، تشكيلة متعددة، ويوجد بالغرفة خزانتين، فيهما عشرات الكراريس وهي مرقمة ومأرشفة، بدا صديقنا من الكراس الأول كان مكتوب على غلافه كراس تنظيمي، فسأل نفسه ما معنى تنظيمي، حضر بباله أن يسأل رفيقه الذي دله على الكراريس، لكنه تراجع حتى لا يسخر منه، وقال قد أجد المعنى بالكراس وشرع بالقراءة كراس وراء كراس حتى أجهز عليها كلها، وصادف أن هناك كراريس تحمل نفس العنوان أي مكررة، وأعاد قراءتها لكي يعمق من الفهم، هذا إلى جانب الجلسات والنقاشات والاستفسارات حول أمور يجهلها بدأ يراكم المعرفة شيئاً فشيئاً.
يدور السجان في القسم كل ربع ساعة لينظر للغرف من الفتحات في أعلى الباب حيث أن ثلث الباب مكون من فتحات صغيرة، أو محاولات هرب من خلال حفر بالأرض رغم أن الأرضية كلها باطون مسلح وأية أمور أمنية تمس أمنهم، مع ذلك يعمل الأسرى بطرق فيها الكثير من التمويه على السجان، فيكتبون الرسائل بخط صغير جداً على ورقة شفاف وبعد كتابة الرسالة يتم لفها وتغليفها بنايلون من أكياس النايلون وكيها بالنار كي لا تتسرب إليها السوائل حين بلعها، وكثيرة هي الملاحقات للكراريس ومصادرة أي كراس مكتوب عليه أشياء يرون فيها تحريض عليهم، جدير بالقول أن اتفاقاً غير مكتوب بين الأسرى من خلال ممثلي الأسرى وإدارة السجن على يتم تفتيش أغراض الأسرى والغرف كلما أرادوا ذلك وقت أن يكون الأسرى خارج الغرف أي وقت الفورة، وفي يوم عادي تفاجأ الأسرى في الغرفة التي يقطنها صديقنا بقدوم مجموعة من السجانين يحملون مدفع الغاز ويعتمرون الخوذ والعصي وكل عدة القمع وحضروا ليجروا تفتيشاً فجائياً رغم أن الأسرى بالغرفة وليسوا بالفورة، حين طلب إليهم الضابط بالخروج واحداً واحداً وسيخضعون للتفتيش رفض الأسرى الخروج مؤكدين على أن هذا ليس الوقت المتفق عليه للتفتيش، وإذا رغبوا يخرج الأسرى دون تفتيش ملابسهم، أصر الضابط وأصر الأسرى كذلك، فاتصل بالإدارة فجاء مدير السجن وحاول مع الأسرى دون فائدة، فاغلقوا السجن وأصبح في وضع طوارئ أمنية بعد ضربوا جهاز الإنذار الذي يصدح بالإرجاء، وجيء بممثل الأسرى ليقنعهم على الخروج فرفضوا إلا إذا تركوهم يتلفوا ما معهم من كبسولات أو أن لا يفتشوهم، وتشبث كل بموقفه، فأمر ضابط الأمن حامل المدفع بضرب الغاز داخل الغرفة واقتحام الغرفة من قبل مجموعة السجانين، وكان كل الأسرى قد لبسوا أحذيتهم وتجهزوا لمواجهة محتملة أثناء النقاش على الباب، وما أن تدفق الغاز في قلب الغرفة حتى بدأ الضرب بالأيدي والكراسي البلاستيكية على السجانين من قبل الأسرى وكل ما طالته أياديهم، حوالي ربع ساعة ألقوا العديد من قنابل الغاز وتعرض أسرى للضرب بالعصي كما تعرض سجانين للضرب، ولم يتمكنوا من أخذ أي شيء وخرجوا بعد صراخ بغرف السجن الأخرى، واستنشق الأسرى كميات من الغاز ومعلوم ما يصبح عليه الحال بعد أن يتنشق الأسير كميات من الغاز، وعبقت الغرفة بالغاز حتى أن الغرف الأخرى تأثرت من الكمية التي تم افراغها من الغاز وهرب السجانون وبقي الأسرى في وضعهم الصعب، فسارع اثنان من الأسرى بحمل بطانية كل من طرف والتهوية بها لإخراج الغاز، مضى أكثر من ساعة على هذا الحال، وهم بهذه الحالة حتى جاء ضابط للقسم ومعه ممثل المعتقل الذي وضعوه في زنزانة، ليخبر الأسرى بالغرفة التي تمت فيها المواجهة بأن يخرج الأسرى كل أغراضهم إلى الساحة لنفضها من الغاز والملابس يتم إرسالها إلى المغسلة بالقسم لغسلها وتنظيف الغرفة قدر ما يمكن ذلك كي يستطيع الأسرى البقاء فيها، أي أن المواجهة انتهت لصالح الأسرى فلم يتمكنوا من إخراجهم ولا تفتيشهم ولا الاستيلاء على كبسولاتهم، كانت هذه المرة الأولى التي يشارك فيها صديقنا مواجهة كهذه، فكانت بعد شهور قليلة على دخوله السجن فتشرب الغاز ليكون بداية المشوار والتأقلم مع ظروف السجن.
عادت الحياة إلى طبيعتها باليوم التالي وكأن شيئاً لم يكون، فكما يبدو تراجع المدير عن تطوير الأمر ولم يبلغ إدارة السجون وانتهت المشكلة وعادوا لممارسة التفتيش كما كان الوضع عليه، وسجل الرفاق بالغرفة موقفاً صلباً في رفض التفتيش كي لا يتمادى السجان لو تمكن من أخذ أي شيء وخاصة الكبسولات، حياً بقية الأسرى الرفاق على موقفهم وصلابتهم.
إن الحادثة التي أشرنا لها تجعلنا نكتب عن دور ممثل المعتقل وعن الهيئات القيادية بالسجن، وفقاً لاتفاق قديم غير معروف من شاركوا به في سني الاعتقال الأولى بأن ممثل المعتقلين يختاره التنظيم صاحب أكبر عدد بالسجن، فبعد أن كانت في السنوات حتى الثمانينات من القرن الماضي تتقاسم هذه المهمة الجبهة الشعبية وحركة فتح، صار هناك تحول تدريجي بأن تزايدت أعداد أسرى فتح ما جعل كل ممثلي المعتقلات من فتح، غير أن هناك لجنة عامة ممثلة بعضو عن كل تنظيم في بادئ الأمر كانت يطلق عليها لجنة التنسيق وفيما بعد اللجنة الوطنية العامة، وهي التي تصوغ القرار الوطني في السجن وعموم الأسرى يلتزموا بقراراتها، فينبثق عنها لجان أخرى مثل اللجنة الثقافية الوطنية واللجنة الرياضية واللجنة المالية.. الخ. أي أن العمل الاعتقالي العام هو عمل بروح وطنية وهذا يوضح أن الكثيرين من الأسرى يمتازون بالروح الوطنية وانعدام التعصب الحزبي.
في تلك الفترة كانت اللجنة الثقافية يصدر عنها مجلة وطنية ثقافية وفي كل سجن تحمل لها اسماً يتم التوافق عليه، مثلاً في سجن نفحة كان اسمها نفحة الثورة لها فرق تحرير يتابعها، فيها مواضيع وتحليل سياسي، ومواضيع اعتقالية أي أخبار عامة عن السجون، ومواضيع أمنية، وقصائد شعرية ومواضيع متعددة تخدم الواقع وتساهم برفع مستوى الوعي، وحتى فيها مسابقات وزاوية للمبتدئين.
كذلك هناك دورات لتعليم اللغات كالانجليزية والعبرية بشكل خاص، وهناك أسرى يختصون بإعطاء الدورات وقد شارك صديقنا بإحدى الدورات العبرية لمدة شهرين وانسحب لكثرة الضغط عليه في مجالات التعلم الأخرى، وأهمها في تلك الفترة مشاركته في دراسة قواعد اللغة العربية لصفوف العاشر والحادي عشر والثاني عشر، وهذه الدورة الطويلة نسبياً وقد علمهم فيها أسير ومدرس مختص بالعربي، وحقق فيها فائدة كبيرة.
يتبع…

أحمد أبو السعود عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى