في عام 1987 قد انفجر حدث هز المنطقة برمتها وليس الاحتلال والشعب الفلسطيني، حيث وقع حادث متعمد في مخيم جباليا بقطاع غزه وهو دهس عدد من العمال الفلسطينيون بجيب عسكري أودى بحياتهم، ما فجر غضباً كان مكبوتاً من ممارسات الاحتلال، هذا الحادث كشف عن انتفاضة كانت تبحث عن صاعق لانفجارها، فخرجت الجماهير أثناء تشييع الشهداء العمال بالآلاف في شوارع المخيم ثم تحولت إلى مواجهات مع جيش الاحتلال، فصبوا على النار زيتاً بارتقاء شهداء آخرين وجرحى بأعداد كبيره، فاستجابت بعض مخيمات الضفة كمخيم بلاطه الذي كان فتيانه وشبابه يجننون الاحتلال، واستجاب مخيم الدهيشه وأرتقى شهداء من المخيمين، وبدأت النيران تشتعل بالمخيمات والمدن والقرى في كل أنحاء الضفة الفلسطينية وقطاع غزه، ففي كل يوم مواجهات وإغلاق للشوارع أمام العربات العسكرية، وفي طرقات المستوطنين بكل أنحاء الضفة وغزه، اتسعت رقعة الأفعال الانتفاضية وتعمقت بعد أن ولدّت قياده وطنيه للانتفاضة حيث انبثق عنها لجان شعبيه ولجان أحياء.
انتفاضة تندلع وتتسع لتشمل كل الأراضي المحتلة وتصبح المواجهات ليلاً ونهاراً، ما جعل شباب الانتفاضة يشكلون لجاء حماية وأخرى لقطع الطرق على الجيش وكثيرون أخذوا بالبحث عن أسلحه لطرد الاحتلال من الأرض الفلسطينية.
كانت بدايتها انتفاضة عفويه وسرعان ما أضحت منظمه، تصدر القيادة الوطنية الموحدة بياناً شهرياً يحمل توجيهات إلى اللجان رجال ونساء وأطفال الانتفاضة لينفذوا التعليمات الصادرة عن القيادة وتطورت وتزايدت أعداد الشهداء، لكن للأسف قيادة م.ت.ف المتنفذة لم تترك قيادة الانتفاضة تدير أمورها وقد وضعت لها شعاراً وهو الحرية والاستقلال، إنما طالبت أن يتم إخراج البيان قبل تعميمه للقيادة المتنفذة بالخارج فتغير وتعدل فيه، ما أوضح للعالم أن تلك القيادة المتنفذة ترمي إلى استثمار الانتفاضة بحل سياسي، وقد وصلوا بعد سبع سنوات إلى اتفاق أوسلو المشؤوم والذي منح العدو مجالاً للسيطرة أكثر والوصول إلى أن مزيداً من الضغط على العرب يجعلهم يتنازلوا وصولا للاستسلام، فتحولت القيادة من متنفذه بـ م.ت.ف إلى قيادة مستسلمة هدفها أي شيء تحققه لتحفظ مصالحها وتنازلت عن شعار الانتفاضة بالحرية والاستقلال، مئات من الشهداء ارتقوا على مدى عمر الانتفاضة وألاف من الجرحى ومئات المنازل التي تم هدمها، وعشرات ألاف المعتقلين، حتى وصل تعداد الأسرى والمعتقلين في بداية التسعينات من القرن الماضي إلى أحد عشر ألفاً، ما يعني أن هناك سجوناً جديدة تم افتتاحها، ومن كثرة المعتقلين كان يزجون بهم في مراكز الشرطة وبمعسكرات الجيش، لقد كسر شعبنا الحاجز النفسي الذي بني منذ عام 1948 وهو الخوف من الاحتلال وخاصة بعد حرب عام 1967 حيث أطبق باحتلاله على كامل الاراضي الفلسطينية وأراض عربية أخرى، أي بعد النكبة نكبة أخرى اسموها نكسه، وأصبح الولد الصغير يتحدى المصفحة المحملة بالجنود ويواجه الدبابة بالحجر كالطفل فارس عوده، وبات الجنود يخافون من الأطفال والشبان، ومعظم المستوطنين إن لم يكن الغالبية الساحقة منهم هربوا وبقيت مستعمراتهم فارغه.
ما قبل الانتفاضة كانت الحياة في السجون رتيبة حيث يقضي الأسرى أوقاتهم ببرامجهم وبانتظار أية أخبار عن تبادل الأسرى، حيث كان بعض الجنود الصهاينة لدى التنظيمات (جنديان تم القبض عليهما في معركة السلطان يعقوب، والطيار رون اراد الذي وقع بالأسر بعد أن تم اسقاط طائرته)، وخاصة ذوي الأحكام المؤبدة ومن قضوا سنوات طويله، كذلك لم يكن في سجون الاحتلال قبل الانتفاضة أكثر من ثلاثة ألاف أسير أو أقل قليلاً، ولكنها غصت بالأسرى بعد الانتفاضة ما خلق حالة ازدحام غير عاديه، فاصبح ينام بالغرفة التي كانت مخصصه لعشرة أسرى عشرون وأكثر، كذلك عمل ضباط إدارة السجون على هدنة مع الأسرى كي لا تنفجر انتفاضة من داخل السجون، وهذا شكل استجابة للأسرى الذين كان شاغلهم الأكبر هو الانتفاضة، لم يقدموا لهم إلا القليل لكن إدارة السجون لم تمارس ضغوطات عليهم .
صديقنا وهو واحد من ثمانين أخاً ورفيقاً في سجن نفحه والذي خلال الانتفاضة فتحوا له قسمين جديدين فأصبح العدد مضعفاً، في تلك الفترة كان متاح للأسرى مشاهدة التلفاز ولكن فقط المحطة الصهيونية، وبعض الغرف وعبر أسلاك يخرجونها الأسرى خلسة ليشاهدوا محطة مصريه بأحسن الأحوال يسمعون الصوت وعلى الصورة تشويش يحجبها.
الأسرى ومنذ بداية الانتفاضة كأنهم استيقظوا من نوم عميق، فدبت بهم الروح والنشاط وتضاعفت البرامج وازدادت أعداد الجلسات الوطنية والخاصة، ولا تسمع إلا النقاشات وتناقل الأخبار حيث كان مسموحاً لكل أسير راديو صغير، وتجدهم عندما يسمعون خبراً عن بيان للقيادة الوطنية الموحدة يفتحون الرديوهات ويكتبوه كله على ورقه ليخرجوا بعد ساعه البيان، بهدف قراءته نهار اليوم الثاني أثناء الفوره أمام الأسرى الذين بالفوره عبر شكل احتفالي يعني بعد تقديم وكلمات قصيره تمجد الشهداء وتحيي الانتفاضة وشعبنا الفلسطيني، لم يقتصر على هذا فقط وإنما وضع الرفاق لأنفسهم برنامج عباره عن تكليف لكل رفيق بأن يكتب بيانات ورسائل لأبناء عائلته وللرفاق الذين يعرفهم يحثهم على العمل وغيره، ثم يكتب رسالة تعزية بكل شهيد باسم الأسرى في سجون الاحتلال لذوي الشهيد، وفوق هذا كل رفيق يذهب للعلاج في مشفى الرمله أي في سجن الرمله هناك يلتقي مع معتقلين جدد منهم يتبعون لتنظيمات ولكن الغالبية غير منظمين والشاطر الذي يستقطب من الجدد، حتى وصل الأمر بأن يسجل الرفيق أو الأخ للعلاج وهو ليس مريضاً بهدف الالتقاء مع المعتقلين الجدد للاستقطاب، فكل تنظيم يريد أن يكبر عدده، وكان الاستقطاب من قبل فتح أكثر واوسع، فكل جديد له قريب يذهب عنده وهناك للأسف الاستقطاب بتقديم علب السجائر وهدايا .. الخ وقد شارك صديقنا بهذا العمل سواء بإخراج رسائل العزاء لذوي الشهداء أو رسائل التوجيهات للمنتفضين أو بعمليات الاستقطاب، لكن ما يقدمه من هدايا عباره عن كتب، ونجح مع البعض وفشل مع أخرين.
تحولت السجون إلى ما يشبه خلية النحل (أنشطه وطنيه واحتفالات وجلسات عامة ومشتركه وخاصه) والكل يتابع وكأن الأسرى جزء من المعركة وحتى لتعتقد أنهم يديرونها، مع أنهم ليسوا ببال أحد، فقد اعتقدوا أنهم محور الانتفاضة، وأقول ليسوا على بال القيادة لأنها تلك القيادة حين أبرمت اتفاقها المذل والمعبر عن الانهزام لم تتذكر أن هناك أحد عشر الفاً من الأسرى، وقد اعترف بعض تلك القيادات أنهم نسيوهم، بل أكثر من هذا، لقد كان أحد المطلعين على سير التفاوض السري في أوسلو وكان متابع بشكل مباشر لما يدور قال في الجلسة الأخيرة بين مسؤول وفد التفاوض الفلسطيني أحمد قريع أثناء لقائه مع وزير خارجية العدو شمعون بيرس، قال في كتاب له اسم الكتاب “طبخة أوسلو” أن بيرس كان مزوداً بقرار من رئيس حكومة العدو رابين في البت بموضوع الأسرى، وحين لم يطرح قريع موضوع الأسرى للبحث، سأل بيرس قريع، ماذا عن الأسرى، هل لديكم قوائم؟، فأجابه: لا. فتراجع بيرس متأكداً أن هذا الموضوع ليس ببالهم.
وفعلاً مارس المفاوض الصهيوني بعدها عمليات ابتزاز للطرف الفلسطيني وجعله يتنازل عن قضايا سياسية مقابل أن يتنازلوا عن عشرات من الأسرى، صحيح أن الألاف من الأسرى تحرروا لكن وضعت شروط أمامهم كالتوقيع على وثيقة يطلب من الأسير فيها الاعتراف بأوسلو وإدانة الإرهاب، ما جعل رفاقنا يرفضون التوقيع حتى تم تعديل الوثيقة بعد أكثر من عام ونصف، حينها كان قرار رفض الوثيقة مشتركاً بين الجبهتين الشعبية والديمقراطية، وبعدهما لحق بهما الجهاد الاسلامي وحماس.
لم يكن يدور ببال صديقنا فكرة أنه سيتاح له التحرر من الأسر لأنه كما وصفوه على أياديه دم وملفه أحمر وهذا الصنف من الأسرى تحفظ عليهم الاحتلال باعتبارهم ( قتلوا يهود )، ولأن تحرر أعداد كبيره من الأسرى قد حدث فقد طالت معظم الكادرات والقيادات، وتقلصت الأعداد، فبعد أن كنا التنظيم الثاني عددياً أصبحنا الرابع، فيقول: قبل أن أنسى أسوق موقفاً يتصل بالوثيقة وكانوا يسمونها (وثيقة التعهد)، بعد أن شاع أن أسرى الجبهتين رفضوا التوقيع على وثيقة التعهد ورفضوا التحرر، واحد ابن حلال ذهب لوالدة صديقنا قبل أن تتوفى وأخبرها بأن ابنها قد طلبوا منه أن يوقع على الوثيقة ويتحرر ورفض، كانت أم مريضه وحين تزوره تصل إلى غرفة الزيارة بعد ربع ساعه لأنها تعجز عن المشي وتتكأ على عصا، جاءته غاضبة وعلى غير عادتها، وشرعت بتوبيخه وهو يحاول تهدئتها ويسألها ما بك، لتقول له أخيرا أنه يرفض الإفراج بحجة ورقه، أقسم لها أنهم لم يعرضوا عليه الوثيقة (علماً أنهم لو عرضوها سيرفض قطعاً)، والذي أخبرك هدفه ازعاجك لأنه منزعج من موقفنا المتناقض مع موقف مؤيدي أوسلو.
وحاول التحدث إليها بما يريحها، لكنها بقيت غاضبه وخرجت من الزيارة وهي غاضبه وزعلانه منه لاعتقادها أنه رفض الانعتاق من الأسر، حينها فقط علم منها أنها كانت في جلسة المحكمة وحيدة بين اليهود وأصرت على الدخول حسب قولها لأن مشاهدته عن قرب تقابل أي إهانات ممكن تتعرض لها، هذه الأمر وهي كأي أم تتسامى على الأمراض وتتحمل عناء السفر والحواجز والانتظار على بوابات السجون مقابل نظرة لابنها وكلمات محسوبة تسمعها منه، استمرت تلاحقه بكل سجن حط فيه ككل الأسرى، حتى وصله خبر رحيلها وهي توصي من كانوا حولها عليه، رحمة الله عليها، فلم يكن ابنها الأول ولا الأخير الذي قضى سنوات في السجون، فكان ابنها الأول قضى شهيداً والثاني مبعداً بعد سنوات بالسجن والثالث سجيناٍ ومن ثم محرراً ومن بعده وبعده كلهم اعتقلوا لأنهم التحقوا بالثورة .
يتبع..
الأسير المحرر أحمد أبو السعود عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين