كان للانتفاضة الأولى والتي سميت بالانتفاضة الشعبية الكبرى أثاراً عميقه على الشعب الفلسطيني، خاصة المقيمين بداخل فلسطين، حيث نقلتهم من حالة الاحباط واليأس إلى حالة من الأمل والتفاؤل وشعروا بقوتهم رغم أن سلاحهم هو الحجر والمقليعه والمولوتوف بشكل عام، كما أشرنا هذه الروح المتقدة انعكست على الأسرى داخل السجون، ما يعني أن الألاف من أبناء وبنات شعبنا تعرضوا للاعتقال فاكتظت السجون بشكل لم يعد يطاق من قبل الأسرى، لم يمر أسبوع على السجون إلا وأرجعوا وجبات من الطعام، أو أعلنوا الإضراب ليوم أو يومين احتجاجاً على ما يعانونه من الازدحام بالغرف أو رفض تلبية احتياجاتهم اليومية من أدوات نظافة ومشتريات من الكانتينا، والاحتجاج على التفتيشات، وسوء تعامل السجانين مع الأهالي أثناء الزيارة وغيرها من المنغصات اليومية، فإنها حالة اشتباك ناعمه اذا صح القول.
ورغم ذلك فإن النظام الحياتي الداخلي لم يتأثر نسبياً، فالبرامج بمواعيدها سواء الثقافية أو التنظيمية أو الاجتماعية، فزيارات الغرف داخل القسم الواحد مستمرة والتفاعلات بالساحة أثناء الفوره على أشدها وأبرز موضوع للتفاعل التلقائي هو ما يدور من أحداث على صعيد الانتفاضة، فيقومون بالواجب حال ارتقاء شهيد له أخ أو قريب من الدرجة الأولى أسير يتواجد مع الأسرى بإحدى الغرف، أو استشهاد قائد من إحدى التنظيمات، تتم وقفه بالساحة أثناء وقت الفورات على روح الشهيد يتم عزاء قريبه وتقديم ما توفر من قهوة ومصافحة القريب والجلوس لربع أو نصف ساعه، أما الشهيد فتتم قراءة بيان باسم الفصائل يشيد بمناقب الشهيد بعد أن يتم الوقوف دقيقة حداد على روحه الطاهره، وعادةً ما تنزعج إدارة السجن ويطلبون ممثل المعتقل ليعمل على إنهاء العزاء أو سيتدخلون بقوة لقمعهم، فيبلغهم أننا في نهاية الوقفة وأنها ستنتهي خلال دقائق، وتمتد الدقائق إلى ربع أو نصف ساعه، وأحياناً يرفض الأسرى إنهاء العزاء بعناد أو نوع من التحدي، وهكذا بين التهديد وامتصاصه تنتهي وقفة العزاء دون صدام.
من القضايا التي كان يعاني منها أسرى سجن عسقلان انعدام توفر الماء الساخن، فقد يمضي أسبوع وأكثر دون أن يستطيع الأسير الاستحمام، فقد تأتي المياه الساخنة بعد الثالثة صباحاً ما يعني أن على بعض الأسرى الانتظار لمثل هذا الوقت لكي يستحموا إن لم تنقطع بعد ساعة أو أقل أو أكثر، يتم تعبئة برميل بلاستيك يتسع لحوالي 40 لتر، وكثيراً ما تم رفع طلب لإدارة السجون بشأن المياه الساخنة وهم يقدمون الوعود تلو الوعود دون جدوى، حتى أن عام 1990 انتشرت فيه الإصابة بالجرب الذي طال غالبية الأسرى وتمت معالجته بصعوبة بعد أن انتشر لشهور، فترى الأسرى كل يحك جلده أثناء الجلسة أو بكل الأوضاع ما جعل هذا الوضع محلاً للسخرية والمزاح بين الأسرى، فقرابة العشرين عاماً لم توفر إدارة السجون المياه الساخنة بالحمامات بغرف الأسرى، وإنما كانوا يستحمون بحمامات خارجيه في وقت الفوره، فكم كان ذلك متعب حيث لا يمكن لأكثر من مئتين من الأسرى المتواجدين بالساحة أن يستحموا خلال ساعتين، عدا عن أن من يمارسوا الرياضة يحتاجون للاستحمام يومياً، بعد الإصابة بأمراض الجلدية والجرب على وجه الخصوص، أخذت إدارة السجن الأمر بجديه وعملت على توفير الماء الساخن بالحمامات.
سجن عسقلان بناه الإنجليز حين كانت فلسطين ترزح تحت احتلاله، وهو بالأساس قبل أن يضيف عليه الصهاينة أقساماً أو يغيروا به، كان عباره عن خمسة أقسام أربعه مخصصه للأسرى والخامس مخصص لإدارة السجن، ثم فيما بعد تم تحويل القسم الخامس للأسرى أيضاً، غرف الأربعة أقسام كبيره نسبياً تتسع لحوالي عشرين سريراً، أي فيها حوالي عشرين أسيراً (ليس جميعها بذات القياس) فمنها ما يتسع لأقل قليلاً لكن قبل أن يتم وضع الأسرة بالغرف، هذا وقد جاء وضع الأسرة بعد إضراب نفحه الشهير عام 1980 لأن إدخالها كان أحد مطالب الأسرى، قبل الأسرة كانت الغرفة الواحدة تتسع لثلاثين وأكثر من الأسرى، يقال أن هذا البناء بأيام الإنجليز كانت غرفه الأرضية تستعمل مبيتا للخيول.
تم تحويل هذا السجن للأسرى في عام 1969، أحضروا إليه أسرى فلسطينيين وعرب من سجون أخرى سواء من سجون الضفة أو من سجن غزه، إذ كان الاحتلال الإنجليزي يحافظ على وجود سجن في كل مدينه فلسطينية، فلا يوجد مدينه إلا وفيها سجن، أما الصهاينة فقد شيدوا سجوناً اختاروا مواقعها بالصحراء لتكون عقاباً لأهالي الأسرى حيث أن أول سجن شيّدوه كان في بئر السبع وقد وسعوه حتى أصبح أربع أو خمسة سجون في سجن كبير واحد. ما يعني أنه يتسع لألاف الأسرى والمعتقلين، طبعا لا يقتصر على الأسرى السياسيين إنما فيه جنائيين من اليهود والعرب.
عندما افتتحوا سجن عسقلان وضعت إدارة السجون مخططاً وسياسة تهدف إلى كسر شوكة الأسرى، حيث أن كل مجموعة أسرى يصلون في بوسطه لبوابة السجن يتم إنزالهم إلى غرفة الانتظار ومن هناك يدخلونهم واحداً واحد، من يدخل من الأسرى يلاقيه باباً يفضي إلى ساحة وعلى مدخل الباب تتشكل حلقه من السجانين المجرمين، يلتفون بحلقة دائريه وعددهم لا يقل عن عشرين سجاناً، وما إن يدخل الأسير حاملاً أغراضه على ظهره سواء ما وجد معه من ملابس وما تسلمه إياه إدارة السجن فرشة وبطانيات، ما إن يمر من الباب حتى يقع وسط الدائرة وهناك يهجم عليه السجانون وكأنه فريسه بالضرب بالعصي وبما تيسر لهم من أدوات قمع ويلعبون فيه كالكره حتى يسقط هامداً على الأرض حيث يجروه لباب أخر وساحة أخرى ثم إلى الغرف، هكذا وصلت الدفعات الأولى للسجن، أما من يحاول أن يبدي دفاعاً عن النفس فبعد الضرب الإجرامي يأخذونه للزنازين، وحكمه من أسبوع لشهر عزل انفرادي أي بلا حقوق، خلالها يومياً يتلقى وجبات من الضرب، حتى امتلأ السجن فكل من دخل السجن في تلك الفترة يعرف مقدار الضرب والإهانات التي تعرض لها أسرى سجن عسقلان الأوائل.
لم تمض سوى شهور حتى تمكن الأسرى من ترتيب أوضاعهم وتنظيم صفوفهم (طبعاً حينها لم يكن كل أسرى فصيل بغرف خاصه بهم، إنما خليط من كل الفصائل)، وكعادة إدارة سجون الاحتلال كل سجن يتم افتتاحه، تتجلى فيه سياسة إدارة السجن بمعاملتها القاسية جداً، فلا حقوق تقريباً، لذلك شرع الأسرى بالتفكير بطريق يقلبون فيه الوضع ويفرض شروط حياة أفضل لهم، فكان سلاح الاضراب المفتوح عن الطعام هو الحل، اذ ليس بأيديهم أي خيار أخر، فإن يتصادموا فالغلبة للسجانين، وما يمكن أن يوحدهم هو رفض الطعام حتى الموت، فتمكن الأسرى من بلورة موقف عام ووطني وكان هذا الإضراب الشهير الأول لعدد كبير نسبياً من الأسرى في عام 1970، حيث شرعوا بالإضراب وقدموا قائمة مطالب أهم ما جاء فيها تغير معاملة السجانين ووقف الاعتداء بالضرب على الأسرى، ومنها أيضاً إدخال فرشة الإسفنج لأنهم كانوا ينامون على جلدة بمقاس الفرشه سمكها لا يتعدى سنتيمتر واحد.
تعاملت إدارة السجون باستخفاف مع المطالب والإضراب، وحاولوا كسر الإضراب بالقوة وعبر كل أشكال الضغط من ضرب وعزل ونقل لسجون أخرى وإغراءات للبعض، رافق ذلك استعمال (الزوندا) أي الخرطوم الذي يدخلون من خلاله الحليب بجوف الأسير للمعدة وأحياناً للرئتين، مما أدى لاستشهاد شهيد الحركة الأسيرة الأول عبد القادر أبو الفحم، وامتد الإضراب لأكثر من شهر ونصف تقريباً لكن على مرحلتين (يقال أن إدارة السجن بعد مرور 12 يوم من الإضراب استجابت لمعظم المطالب، لكن كان من أحد المطالب إدخال مشطً صغير للشعر أصرت إدارة السجن على رفضه ما دعاهم للاستمرار لحوالي شهر حتى حققوا مطلبهم بالحصول على المشط !!! ) بعدها بسنوات كانت كثرة من هذا المشط ولا يستعمله أحد، لكن التحدي أحياناً يجعلك تقف بقوه لإثبات إرادتك وقوتك وما تمثله من ثورة وشعب يكافح من أجل الحرية.
لقد كان هذا الإضراب الأول وحققوا من خلاله العديد من المطالب وأهمها تغيير في معاملة السجانين اتجاه الأسرى، ما شكل أساساً بنى عليه الأسرى سلاحاً جباراً يستعملونه وقت الضرورة للوصول إلى مطالبهم، أي حين لم يتبق لديهم أي خيار أخر إلا هذا الخيار، علماً أن الإضراب يصاحبه أوجاع شديده بالرأس والمفاصل وكل أنحاء الجسد ويتسبب بأمراض مزمنة ترافق المضرب طوال عمره أو لسنوات عديده، عدا عن الألم والقهر الذي يطال الأهل وخاصة الأمهات اللواتي كان بعضهن يضربن مع ابنائهن ولا يقف إضرابهن إلا بعد تعليق إضراب الأسرى، المهم اكتشف الأسرى قوة هذا السلاح وراكموا إنجازات وحققوا مطالب غيرت في واقعهم، رغم أن أي تغير ما هو إلا شكلي ومحدود زمنياً لأن لإدارة السجون دائماً ما تنقلب على الأسرى وتصادر حقوقهم، ولأن الوجود بالسجن بحد ذاته هو أقسى أنواع العذاب.
يتبع ..
الأسير المحرر أحمد أبو السعود عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين