عدة شهور قضاها صديقنا كجزء من الغرفة وجزء من الخلية التي تعمل وفق برنامج متفق عليه يغطي ساعات النهار وجزء مهم من ساعات الليل، يصحو بالسادسة صباحاً وبعد أن يدخل إلى الحمام يغسل وجهه ويعود إلى سريره ويلتقط كتابه أو كراسه ليقرأ، لديه ساعه تقريباً من الهدوء بعد أن يخرج بعض الرفاق لممارسة الرياضة الصباحية، كان الرفاق يلبسون الشرت القصير وبلوزه نص كم أو شباح في الأوقات الدافئة بينما بالشتاء يلبسون الشرت وبلوزه دافئة يخصصها صاحبها للرياضة، أما الأخوة في فتح وحماس والجهاد فلا يلبسوا الشرت القصير بل بنطال عادي مخصص للرياضة، وذلك لمعتقدات اجتماعيه طبعاً ليس كل الأخوة يقاطعون الشرت بل الأغلبية ولا كل الرفاق يرتدون الشرت أيضاً، هذا يدلل على النظرة الاجتماعية للباس، مثلاً غالبية أبناء القدس والمدن يرتدون الشرت ولديهم قابلية أن يبقى نصف أجسادهم عاريه لولا البحث عن قواسم مشتركه بين الجميع.
في ساحة الفوره التي يمارسون فيها الرياضة يصطفون طابوراً ويبدأ أول من يصل بالركض ويتبعه الأخرين، وفي حال كان العدد كثير يتم عمل طابور ثاني إلى جانب الأول، يتم الركض لنصف ساعة متتاليه، ومن يعجز عن اكمال نصف الساعة يخرج من الطابور ليكمل نصف الساعة سيراً إلى أن تنتهي عملية الركض ويتحولون إلى مجموعة كبيره لممارسة التمارين السويدية أو يلتف عدد قليل منفردين لوحدهم ليلعبوا تمارين تناسب قدراتهم الرياضية، وأحياناً يتحكم بالأمر كبر أو صغر الساحة.
حافظ الأسرى على ساعة الرياضة طوال سني الاعتقال صيفاً وشتاءً، لأن فيها تعويضاً عن المكوث ساعات طويله بالغرفة، وقد تجد رفيقاً أو أخاً أو أكثر يمارسون الرياضة داخل الغرفة، فالكل يشجع على ممارسة الرياضة لما فيها من فوائد للجسم وللنفس، حيث أن من يمارس الرياضة يفرغ كبت وضغوطات نفسيه تجعله لا يتشاجر مع رفاقه أو إخوانه، طبعا إلى جانب المحافظة على الجسد الذي سوف يبقى سنوات طويله محروم من الغذاء السليم والتهوية والحركة ما يجعله عرضة للإصابة بالأمراض سواء كأنت أمراض جسديه أو نفسيه، وساعة الرياضة فرضت على إدارة السجون منذ سنوات الاعتقال الأولى ولم تأت مبادرة من السجان أو كرم منه، في بعض الأوقات تتسع ظاهرة ممارسة الرياضة فبنى أسرى كثيرين أجساماً وكأنهم يلعبون رفع الأثقال وأصبحوا ذوي أجسام مفتولة العضلات وصدور بارزه ما لفت نظر إدارة السجون مما جعلهم يقلصون أنواع الطعام ويضعون عراقيل أمام ممارسي الرياضة من خلال مصادرة أية ادوات يرفعونها كأثقال مثل أكياس السكر وأكياس الملح التي توضع بأكياس من القماش يخيطونه عليها .. الرياضة ظاهره صحية لم تنقطع إلا أثناء الاضرابات المفتوحة عن الطعام وأوقات المواجهات وحالات الطوارئ وفي زمن معركة طوفان الاقصى حيث انقلبت الحياة إلى جحيم حقيقي غير مسبوق طوال سني الاحتلال.
صديقنا لم يمارس الرياضة حيث كانت إجابته الأولى بأيامه الأولى بالغرف أنه يريد أن يستريح من فترة التحقيق ومن العمل الشاق الذي كأن يمارسه قبل الاعتقال، وجاءه سبب أخر بأنه يريد أن يعبئ معظم وقته بالقراءة ليلحق بالرفاق في مستوى وعيهم، لكنه بقي متمسك بالسجائر رغم رداءتها وقلة عددها، فالحصة للرفيق لم تتجاوز العشرة سجائر يومياً، اعتاد شرب القهوة يومياً حتى أدمنها كما السجائر، ومثله أكثر من 95 بالمئة من الاسرى بما يتعلق بالدخان.
ثابر جيداً على القراءة والانغماس بالجلسات والمناقشات والأسئلة لمن هم يملكون قدرات تحليليه وسعه ثقافيه، وبعد عدة شهور أجريت عملية نقل بين الغرف، حيث قدمت الفصائل قائمة بأسماء الراغبين بالانتقال من غرفة لأخرى، فإدارة السجن توافق على من لا تراه يشكل خطراً أمنياً عليها، حيث تفحص الإدارة كل اسم فيما لو كان لديه أعداء بالغرفة التي سيذهب إليها، أو أية أسباب أخرى وعادة ما كانت إدارة السجن توافق على كل القائمة أو ترفض واحد أو اثنان، كان اسم صاحبنا ممن وقع عليهم خيار النقل لغرفة أخرى، وفعلاً انتقل للغرفة الثانية وطبعاً هو يعرف كل من فيها ويعرفونه فأثناء لقائهم بساعة الفوره يتفاعلون مع بعضهم، فالنقل ليس لمكان مجهول أو بعيد، لكنه سيذهب لبرنامج ووجوه أخرى غير التي اعتادها لشهور، معلوم أن غرف السجن مقسمه بين التنظيمات وفق عدد أعضائها، أي لكل فصيل غرفته الخاصة، ويمكن أن تكون غرفة مشتركه بالقسم فيها من تنظيمان أو أكثر. بمساء يوم النقل عملوا جلسة استقبال للقادمين تضمنت كلمات ترحيب وتعارف على من لا يعرفونه ويضعون أمامهم على طاولة بلاستيكية كميه متواضعة من بزر دوار الشمس وإذا توفر كأس من الكولا وإن لم يتوفر فكأس من الشاي لشاربي الشاي وبعض القهوة لمحبي القهوة. وقد تتحول الجلسة إلى أجواء مرحه فيها النكات وبعض القصص، ويتاح المجال ليحكي كل عن بلدته أو مخيمه أو مدينته وغير ذلك من أجواء المرح والترفيه، فهو استقبال لكسر أية عوامل خجل حتى لا بشعر القادم بأنه غريب أو ضيف، بل جزء أصيل ليندمج سريعاً بحياة الغرفة وأجوائها.
باليوم التالي كان الاجتماع الأول لتركيبة الخلية بقوامها القديم والجديد، فأول خطوة عادةً ما تكون وضع برنامج ثقافي عام للغرفة، أو إذا قدم عدد قليل يندمجوا مع البرنامج المعمول به، وهي لا تختلف عن غيرها وذلك بعقد اجتماعين يومياً بشكل جماعي وبينهما جلسات قد تكون ثنائيه أو ثلاثية أو حتى جماعيه، وتحددت مادة كل جلسه وبينهما جلسة يوميه في وقت ثابت يومياً عدا الجمعة قبل موعد الفوره الصباحية فتكون مفتوحه يتم فيها نقاش كتب قواعد اللغة العربية لصفوف الأول والثاني والثالث الثانوي وبأسلوب مدرسي من خلال مدرس مختص فيها كثير من المرح والتفاعل الإيجابي والمريح مما يوفر رغبة لدى شاغري الغرفة جميعا بالمشاركة والتفاعل، بالتالي حققت قدراً كبيراً من الفائدة لصديقنا الذي كان يجهل القواعد تقريباً، واستمرت مناقشة هذه المادة لشهور عديده كان لها الفضل في تطوير مستوى الرفاق جميعاً، فزادهم ذلك حباً بلغتهم وقواعدها وأخذوا يطبقوا القواعد في كتاباتهم .
أما وقد مضى على صديقنا عاماً بالسجن تقريباً، فقد طلب منه المسؤول أن يحضر نفسه ليقود جلسة ثقافيه حدد له عنوانها وعدد صفاحتها وهي مكتوبة على كراس. تردد بعض الشيء لكن أصرار المسؤول جعله يتقبل الأمر وبدأ من لحظتها بالتحضير، وعلى كل رفيق أن يحضّر ذات المادة لكي تتم مناقشتها وإغنائها وتسهيل استيعابها من قبل الجميع، لقد قرأها عدة مرات وأعاد قراءتها حتى جاء موعد الجلسة وهو بالثامنة مساءً، وعادة أن مدير الجلسة، يجلس ويدير ظهره للباب وقد اخذ مكانه، والمفروض أن زمن الجلسة ساعه ونصف كحد ادنى، الوقت كان شتاء وفي شهر شباط وفي سجن نفحه بصحراء النقب ليلاً ومعظم الرفاق يلتفون كل ببطانية ليقي جسمه من شدة البرد، غير أن صديقنا جلس بدون بطانيه وهو في قمة التوتر إلى درجة أن حبات من العرق اجتاحت جبينه، وافتتح الجلسة بعنوانها الرئيسي والفروع في المادة، وأخذ يتحدث عن كل عنوان عدة دقائق حتى أكمل ما لديه بما لا يصل إلى عشرة دقائق أو يزيد قليلاً، ثم بدأ بتوجيه السؤال الأول حتى استأذن منه المسؤول ليقول له لو سمحت لي دعني أركز المعلومات فأخذ مكانه وجلس، ثم استأنف توجيه الأسئلة للرفاق ومضت الساعة لم يشعر بأي برد بل كان جسمه متعرق، ومع اختتام الجلسة نهض كل إلى مكانه وهو بقي جالساً يود لو أن واحد يقول له احسنت أو فشلت أو أي تقيم، لكن أحداً لم يقدم له ما أراد فقام إلى برشه وجلس والكل منشغل بأموره وهو ينظر إليهم ويسأل نفسه معقول أنا عامل البناء استطعت أن اقود جلسة لرفاق منهم جامعيون ومنهم اسرى قدماء .. الخ غسل وجهه من أثار العرق وجلس إلى جانب رفيقه الذي يرتاح إليه وسأله ما رأيك، فأجابه كأنت بداية معقوله وسوف تتطور مع الوقت، وفعلاً أخذ ذلك وقتاً ليس بالقليل بل سنوات، فليس سهلاً أن تقود في مجال وأنت مبتدأ فيه، لأن القيادة تتطلب مواصفات خاصه وليس كل واحد يمتلكها، أهمها أن تكون تملك المعلومات وأن تمتلك الثقة بالنفس وأن تبحث عما يقنع الأخرين، وتعرف تقديم الفكرة وبسط الموضوع ثم خاتمته بدون نزق أو تعالي على الغير أو شوفة حال، وقد كانت البداية صعبه لكن من يمتلك الإرادة تهون أمامه الصعاب، وادارة الجلسة سواء الثقافية أو بأي مجال كان تحتاج لمهارة خاصه، وكم من مدرس محبوب وآخرين غير ذلك، والفارق بين المدرس والمناضل أن الأخير يريد أن يوصل المعلومة لرفاقه بكل الطرق لقناعته أن المعرفة والعلم سلاح يضاهي المدفع والبندقية إن لم يتفوق عليها.
والشي بالشيء يذكر، لقد كان معظم الأسرى يتفوقون على سجانيهم بالعلم والمعرفة ولا يجرأ أي ضابط على نقاش أي أسير في قضايا سياسية أو فكريه أو تاريخيه، ومنعت إدارة السجن السجانين من نقاش أي أسير خوفاً من وقوع أحدهم تحت الاقتناع والتأثر أو التعاطف مع الأسرى، وفي سنوات التسعينات فرض على كل ضابط في إدارة السجون أن يحصل على شهادة جامعيه لكي يصبح ضابطاً، المفارقة أن بعضهم كأن يلجأ للأسرى ليساعدوهم بدراستهم ولكل شيء ثمنه.
الأسير المحرر أحمد أبو السعود عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين